سورة الأنبياء - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{وَأَيُّوبَ} الكلام فيه كما مر في قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وسليمان} أي واذكر خبرَ أيوبَ {إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى} أي بأني {مَسَّنِىَ الضر} وقرئ بالكسر على إضمار القولِ أو تضمينِ النداء معناه، والضرُّ شائع في كل ضررٍ وبالضم خاص بما في النفس من مرض وهُزال ونحوهما {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين} وصفه تعالى بغاية الرحمةِ بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها واكتفى به عن عرض المطلب لطفاً في السؤال، وكان عليه السلام رومياً من ولد عيص بن إسحاقَ استنبأه الله تعالى وكثُر أهلُه وماله فابتلاه الله تعالى بهلاك أولادِه بهدم بيت عليهم وذهابِ أمواله والمرضِ في بدنه ثمانيَ عشرةَ سنة، أو ثلاثَ عشرةَ سنة، أو سبعاً وسبعةَ أشهر وسبعة أيام وسبعَ ساعات، روي أن امرأتَه ماخيرَ بنتَ ميشا بنِ يوسفَ عليه السلام أو رحمةَ بنتَ أفرايمَ بنِ يوسف قالت له يوماً: لو دعوتَ الله تعالى، فقال: كم كانت مدةُ الرخاء؟ فقالت: ثمانين سنة، فقال: أستحيي من الله تعالى أن أدعوَه وما بلغتْ مدةُ بلائي مدةَ رخائي، وروي أن إبليسَ أتاها على هيئة عظيمة فقال: أنا إله الأرضِ فعلتُ بزوجك ما فعلت لأنه تركني وعبدَ إله السماء، فلو سجد لي سجدةً لرددتُ عليه وعليك جميعَ ما أخذتُ منكما، وفي رواية: لو سجدتِ لي سجدةً لرَجعتُ المالَ والولد وعافيتُ زوجَك، فرجعت إلى أيوبَ وكان ملْقًى في الكُناسة لا يقرُب منه أحدٌ فأخبرته بالقصة فقال عليه السلام: كأنك افتُتِنْتِ بقول اللعين لئن عافاني الله عز وجل لأضرِبنّك مائة سَوْط وحرامٌ عليّ أن أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابِك، فطردها فبقيَ طريحاً في الكُناسة لا يحوم حوله أحدٌ من الناس فعند ذلك خر ساجداً فقال: ربّ إني مسّنيَ الضرُّ وأنت أرحمُ الراحمين، فقيل له: ارفعْ رأسك فقد استُجيب لك، اركُضْ برجلك فركض فنبعتْ من تحته عينُ ماء فاغتسل منها فلم يبقَ في ظاهر بدنه دابةٌ إلا سقطتْ ولا جراحةٌ إلا برِئت، ثم ركض مرة أخرى فنبعت عينٌ أخرى فشرب منها فلم يبقَ في جوفه داءٌ إلا خرج وعاد صحيحاً ورجع إليه شبابُه وجمالُه ثم كُسِيَ حلة وذلك قوله تعالى: {فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ} فلما قام جعل يلتفت فلا يرى شيئاً مما كان له من الأهل والمالِ إلا وقد ضاعفه الله تعالى وذلك قوله تعالى: {وَءَاتًيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهمْ مَعْهمْ} وقيل: كان ذلك بأن وُلد له ضِعفُ ما كان، ثم إن امرأتَه قالت في نفسها: هبْ أنه طردني أفأترُكه حتى يموتَ جوعاً وتأكلَه السباع لأرجِعنّ إليه، فلما رجعت ما رأت تلك الكُناسة ولا تلك الحال وقد تغيرت الأمورُ فجعلت تطوفُ حيث كانت الكُناسة وتبكي وهابت صاحبَ الحُلة أن تأتيَه وتسألَ عنه، فأرسل إليها أيوبُ ودعاها فقال: ما تريدين يا أمةَ الله؟ فبكت وقالت: أريد ذلك المبتلى الذي كان ملقًى على الكناسة، قال لها: ما كان منك؟ فبكت وقالت: بعْلي، قال: أتعرِفينه إذا رأيتِه؟ قالت: وهل يخفى عليّ؟ فتبسم فقال: أنا ذلك فعرفته بضحكه فاعتنقتْه {رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وذكرى للعابدين} أي آتيناه ما ذُكر لرحمتنا أيوبَ وتذكرةً لغيره من العابدين ليصبِروا كما صبر فيُثابوا كما أثيب، أو لرحمتنا العابدين الذين من جملتهم أيوبُ وذكْرِنا إياهم بالإحسان وعدمِ نسياننا لهم.


{وإسماعيل وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل} أي واذكرهم، وذو الكِفل إلياسُ، وقيل: يوشعُ بنُ نون، وقيل: زكريا سُمّي به لأنه كان ذا حظ من الله تعالى أو تكفُّلٍ منه، أو ضعفِ عمل أنبياءِ زمانه وثوابِه فإن الكفلَ يجيء بمعنى النصيب والكفالة والضِعْف {كُلٌّ} أي كل واحد من هؤلاء {مّنَ الصابرين} أي على مشاقّ التكاليف وشدائدِ النُّوَب، والجملةُ استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ من الأمر بذكرهم.
{وأدخلناهم فِى رَحْمَتِنَا} أي في النبوة أو في نعمة الآخرة {إِنَّهُمْ مّنَ الصالحين} أي الكاملين في الصلاح الكاملِ الذي لا يحوم حوله شائبةُ الفساد وهم الأنبياءُ، فإن صلاحَهم معصومٌ من كَدَر الفساد.
{وَذَا النون} أي واذكر صاحب الحوت وهو يونسُ عليه السلام {إِذ ذَّهَبَ مغاضبا} أي مراغِماً لقومه لمّا برِمَ من طول دعوته إياهم وشدةِ شكيمتهم وتمادي إصرارِهم مهاجراً عنهم قبل أن يؤمر، وقيل: وعدَهم بالعذاب فلم يأتِهم لميعادهم بتوبتهم ولم بعرف الحال فظن أنه كذّبهم فغضِب من ذلك، وهو من بناء المغالبة للمبالغة أو لأنه أغضبهم بالمهاجَرة لخوفهم لحوقَ العذاب عندما وقرئ: {مُغضَباً} {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أي لن نضيّقَ عليه أو لن نقضيَ عليه بالعقوبة من القدر، ويؤيده أنه قرئ مشدداً أو لن نُعمِل فيه قدرتَنا، وقيل: هو تمثيلٌ لحاله بحال مَنْ يظن أن لن نقدر عليه أي نعامله معاملةَ من يظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومَه من غير انتظار لأمرنا كما في قوله تعالى: {يَحْسَبُ أَن مَالَهُ أَخْلَدَهُ} أي نعامله معاملةَ من يحسَب ذلك، وقيل: خطرةٌ شيطانية سبقت إلى وهمه فسُمّيت ظنًّا للمبالغة، وقرئ بالياء مخففاً ومثقلاً مبنياً للمفعول {فنادى} الفاءُ فصيحة أي فكان ما كان من المساهمة والتقامِ الحوت فنادى {فِى الظلمات} أي في الظلمة الشديدةِ المتكاثفة أو في ظلمات بطنِ الحوتِ والبحرِ والليل، وقيل: ابتلع حوتَه حوتٌ أكبرُ منه فحصل في ظلمتي بطني الحوتين وظلمتي البحر والليل {أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ} أي بأنه لا إله إلا أنت على أنّ أنْ مخففةٌ من أنّ وضميرُ الشأن محذوف، أو أي لا إله إلا أنت على أنها مفسّرة {سبحانك} أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن يُعجزك شيءٌ أو أن يكون ابتلائي بهذا بغير سبب من جهتي {إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين} لأنفسهم بتعريضها للهلكة حيث بادرت إلى المهاجرة.


{فاستجبنا لَهُ} أي دعاءَه الذي دعاه في ضمن الاعترافِ بالذنب على ألطف وجهٍ وأحسنه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مكروبٍ يدعو بهذا الدعاء إلا استُجيب له» {ونجيناه مِنَ الغم} بأن قذفه الحوتُ إلى الساحل بعد أربع ساعاتٍ كان فيها في بطنه، وقيل: بعد ثلاثة أيام، وقيل: الغمُّ غمُّ الالتقام، وقيل: الخطيئة {وكذلك} أي مثلَ ذلك الإنجاءِ الكامل {نُنجِى المؤمنين} من غمومٍ دَعَوُا الله تعالى فيها بالإخلاص لا إنجاءً أدنى منه، وفي الإمام نجّى فلذلك أخفى الجماعةُ النون الثانية فإنها تخفى مع حروف الفم، وقرئ بتشديد الجيم على أن أصله نُنجّي فخذفت الثانية كما حذفت التاء في تَظاهرون وهي وإن كانت فاءً فخذفُها أوقعُ من حذف حرفِ المضارَعة التي لِمعنًى، ولا يقدح فيه اختلافُ حركتي النونين فإن الداعيَ إلى الحذف اجتماعُ المِثلين مع تعذّر الإدغام وامتناعُ الحذفِ في (تتجافى) لخوف اللَّبس، وقيل: هو ماضٍ مجهولٌ أسند إلى ضمير المصدر وسُكّن آخره تخفيفاً ورُدّ بأنه لا يسند إلى المصدر والمفعول مذكور، والماضي لا يسكن آخرُه.
{وَزَكَرِيَّا} أي واذكر خبره {إِذْ نادى رَبَّهُ} وقال: {رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً} أي وحيداً بلا ولدٍ يرثني {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} فحسبي أنت إن لم ترزُقني وارثاً {فاستجبنا لَهُ} أي دعاءَه {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} وقد مر بيانُ كيفية الاستجابة والهبة في سورة مريم {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي أصلحناها للولادة بعد عُقْرها أو أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلقِها وكانت حَرِدةً، وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الخيرات} تعليل لما فصل من فنون إحسانِه تعالى المتعلقة بالأنبياء المذكورين، أي كانوا يبادرون في وجوه الخيراتِ مع ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير وهو السرُّ في إيثار كلمة (في) على كلمة إلى المُشعرة بخلاف المقصودِ من كونهم خارجين عن أصل الخيراتِ متوجهين إليها كما في قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ} {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} ذوي رغَبٍ ورهَب أو راغبين في الثواب راجين للإجابة أو في الطاعة وخائفين العقاب أو المعصية أو للرغب والرهب {وَكَانُواْ لَنَا خاشعين} أي مُخْبتين متضرعين أو دائمي الوجَل، والمعنى أنهم نالوا من الله تعالى ما نالوا بسبب اتصافِهم بهذه الخصال الحميدة.
{والتى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي اذكر خبرَ التي أحصنتْه على الإطلاق من الحلال والحرام، والتعبيرُ عنها بالموصول لتفخيم شأنِها وتنزيهها عما زعموه في حقها آثرَ ذي أثيرٍ {فَنَفَخْنَا فِيهَا} أي أحيينا عيسى في جوفها {مِن رُّوحِنَا} من الروح الذي هو من أمرنا، وقيل: فعلنا النفخَ فيها من جهة روحنا جبريلَ عليه السلام {وجعلناها وابنها} أي قصتهما أو حالهما {ءَايَةً للعالمين} فإن مَنْ تأمل حالهما تحقق كمالَ قدرتِه عز وجل، فالمرادُ بالآية ما حصل بهما من الآية التامةِ مع تكاثر آياتِ كلِّ واحد منهما، وقيل: أريد بالآية الجنسُ الشاملُ لما لكل واحدٍ منهما من الآيات المستقلة، وقيل: المعنى وجعلناها آيةً وابنها آيةً فحذفت الأولى لدِلالة الثانية عليها.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13